اكتئاب ما بعد الولادة .. حالة من الحزن والقلق والوساوس
غادة محجوب
يعتبر '' اكتئاب ما بعد الولادة '' أحد أكثر الأمراض شيوعا بعد فترة
الحمل والولادة وأحد أهم الأسباب التي تفسد على الزوجة والأم
سعادتها وفرحتها بتجربة الأمومة، وحسب الأطباء المختصين فإن
الاكتئاب كحالة مرضية قد تستمر لشهور وأحياناً لسنوات ، والمشكلة
تكمن في تبعات هذا المرض وما يترتب عليه من مشاكل في الحياة
الأسرية، واستقرار وفرحة أفراد الأسرة بوليدها الجديد. ويعتبر
اكتئاب ما بعد الولادة حالة مرضية لها عواقبها الوخيمة إذا لم تلجأ
المريضة لطبيب نفسي أو لأحد المستشفيات النفسية لتلقى العلاج، و
هذا المرض يصيب النساء خاصة أثناء فترة الحمل وبعد الولادة، و
قد يتبادر إلى أذهاننا سؤال ما مدى انتشار هذا المرض وهل انتشاره
لدرجة تدعوا للقلق؟ .. ملحق ( أسرة الوطن) يسعى للحصول على
إجابة هذا السؤال من خلال لقاءات مع أمهات ودكتورة مختصة
وذلك من خلال التحقيق التالي:
''إنني كنت أتطلع لولادة تلك الطفلة... والآن اشعر بتعاسة لا نظير
لها...لا أعرف ما الذي يحدث لي؟ '' عبارات ترددها بعض الأمهات
بعد الولادة ولفهم هذه الحالة المرضية إلتقت ( أسرة
الوطن ) بالدكتورة شارلوت عوض كامل استشارية الطب
النفسي بمستشفى الأمراض النفسية .. تقول:
- قد تردد بعض النساء الحوامل أو الذين وضعن حملهن حديثا بعض
العبارات الغريبة بين الحين والآخر مثل '' إنني كنت أتطلع لولادة
تلك الطفلة، والآن اشعر بتعاسة لا نظير لها، ولا أعرف ما
الذي حدث ويحدث لي'' أو عبارة'' كنت أخشى حدوث مكروه
لوليدتي ولكنها ولدت كاملة فلماذا أنا غير سعيدة بولادتها
الآن؟ .. ربما لأنني لم أخلق لأكون أما''... هذه العبارات وغيرها
قد ترددها بعض النساء وهي في الواقع علامات أو مؤشرات أوليه
على إن هؤلاء النساء يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة... تواصل
د. شارلوت:
- من المعروف لغويا إن كلمة '' كئب'' تعنى تغير النفس وانكسارها
من شدة الهم والحزن، و أعراض مرض اكتئاب ما بعد الولادة كثيرة
منها الشعور بالحزن والبؤس وعدم السعادة والإحباط في معظم
الأوقات، والحساسية الذائدة أو سرعة الانفعال تجاه الأطفال
وبالأخص تجاه الطفل الذي يسبق ولادته الإصابة بالاكتئاب، وغالبا
ما تكون هذه الحساسية أيضا تجاه الزوج، الذي يجد صعوبة كبيرة
في تفهم ما يحدث، ومن لأعراض أيضا -تقول- بالإرهاق الشديد
دون وجود أي سبب عضوي، وفقدان المتعة و لاهتمام، فقد تشعر
بعض النساء المصابات بهذا المرض بالملل، وتحول كل ما كان يثير
لديهن البهجة والسرور إلى شيء ممل غير جذاب، وينطبق هذا أيضا
على العلاقة الجنسية الخاصة، وهذا بدوره يخلق توترا في العلاقة
الزوجية، كذلك شعور الزوجة بعدم وجود وقت كافي لإتقان أي عمل
أو عدم القدرة على القيام بأي شيء لتصحيح الوضع
الذي هي عليه.. أيضاً لشعور بالقلق والخوف، وقد يكون هذا القلق
حادا ويتخذ شكل الخوف من بقاء المريضة وحيدة مع الطفل
الذي يملأ المكان صراخا وبكاء، أو الخوف من أن يسقط الطفل
ويصاب بأذى بطريقة أو بأخرى، والبعض الآخر من الأمهات
قد يتصورن أطفالهن كشيء غريب أو غامض لا يمكن فهمه، كما إن القلق قد يساور الأم حول صحتها هي شخصيا، وقد تعتقد أنها تعانى من مرض عضال وهذا ما يزيد شعورها بالتعاسة وقلة الحيلة، مما يؤدى بدوره لدفع بعضهن للتشبث بالزوج لدرجة عدم السماح له بالذهاب لعمله.
اكتئاب ما بعد الولادة نوعان
تقول الدكتورة شارلوت عوض عن أنواع المرض ونسبة حدوثه:
- معظم حالات الإصابة بمرض اكتئاب ما بعد الولادة قد تظهر
في غضون شهر بعد الولادة، إلا إنه في بعض الحالات قد تطول
المدة لستة شهور أو لسنة بعد الولادة، وهناك نوعان النوع الأول و
الذي يسمى ''بالكآبة العارضة'': فقد وجد أن واحده من كل أثنين من
النساء قد تنتابهن الرغبة في البكاء وشعور بحالة من عدم الاطمئنان
وقلة الحيلة في اليوم الثالث أو الرابع من الولادة، والتي سرعان ما
تختفي هذه الأعراض، وتصبح الأمور تحت السيطرة بعد أسبوع أو
أكثر ولا تحتاج إلى علاج. أما النوع الثاني أو ما يسمى ''اكتئاب ما
بعد الولادة'': هو حالة مستمرة من الاكتئاب لا تقل مدتها عن أربع
أسابيع، وهو يصيب ٥١٪ من الأمهات وهى نسبة مرتفعة نسبيا
وتعكس مدى خطورة هذا المرض، و سبب ظهور هذه الأعراض هو
الانخفاض المفاجأ في الهرمونات المصاحبة للحمل والتي تحدث بعد
عملية الولادة، و قد تؤثر على عواطف المرأة التي قد تتساءل '' أنا
خائفة...هل يمكن أن أوقع الضرر بابني؟. و الإجابة بالطبع كلا،
فلا يمكن أن تفعل ذلك وتوقع الأذى بطفلها، فقد تشعر برغبة
في الأذى ولكنها أفكار اندفاعية لا تتحول إلى تصرفات فعلية، والحمد
لله أن هذا المرض لا يصيب جميع النساء، و إذا عولج بسرعة فإنه
قد يمكن القضاء عليه في مهده..
وعن أسباب المرض تضيف الدكتورة شار لوت كامل:
- هناك أسباب كثيرة لحدوث هذا المرض منها، التغيرات الهرمونية
الكبيرة أثناء الحمل وبعد الولادة، وفقدان الدعم اللازم من شريك الحياة
( الزوج)، وكذلك الولادة قبل الأوان أو ولادة طفل مصاب بمرض
ما، وقد يكون لفقدان الزوجة لوالدتها في سن الطفولة تأثير في نسبة
حدوث المرض، وقد يكون السبب نتيجة مجموعة متراكمة من
المآسي التي تمر بها الزوجة مثل الموت أو فقدان الزوج لوظيفته أو
مشكلات سكنيه ومالية وغيرها في الفترة التي تسبق الحمل والولادة،
وقد تحدث الإصابة بالمرض دون وجود أيا من المسببات سابقة
الذكر أو عدم وجود سبب واضح لذلك.
اعترافات أمهات مكتئبات
من جهة أخرى أجرت( أسرة الوطن) بعض اللقاءات مع مجموعة
من الأمهات ورصدت تجاربهن مع هذه الحالة المرضية.
تقول بهية. م: '' امتنعت عن الحمل لهذا السبب وهو
إصابتي باكتئاب الولادة، فقد كبر أولادي ووصلوا لمرحلة الثانوية،
ونفسي ألبى رغبة زوجي في إنجاب طفل آخر له يملأ علينا حياتنا
ويملأ المنزل جريا ولعبا، خاصة بعد أن فقدنا طفلنا الأخير في حادث
سيارة ولم يعد لدينا غير أبنتين، وأنا أبكي ويتقطع قلبي ولكني لا
أجرؤ على الحمل خوفا من معاودة إصابتي بهذا الاكتئاب اللعين
الذي قلب حياتنا رأسا على عقب ''.
فاطمة.ع تقول: '' بعد وضعي لطفلي الأول كنت أشعر بسعادة بالغة
كأي أم تضع وليدها دون مشاكل، وكانت فرحتي لا توصف عندما
أرى وليدي الأول نائم بجواري في السرير، وأستمر هذا الشعور
خلال اليوم الأول والثاني والثالث، ولكن بعد هذا شعرت
بضيق غريب في صدري مع إني كنت في وسط أهلي وأسرتي وكنت
اسمع القران باستمرار، وبعدها أخبرتني الطبيبة النفسية بأنني أصبت
باكتئاب ما بعد الولادة، وبعدها مرت أيام جدا صعبة، أرتعد خوفا
عندما أفكر فيها أو أتذكرها، والآن أنا حامل بطفلي الثاني، ومن يوم
أن أخبرتني الطبيبة بأنني حامل وأنا أقضى الأيام والليالي أفكر فيما
لو عاودني هذا المرض اللعين في هذا الحمل أيضا رغم إني أتابع مع
دكتورة نفسية ويقف زوجي وأهلي بجانبي ويساعدوني ويشدوا من
أزرى''.
وعن دور الأهل و الزوج في علاج مريضة الاكتئاب يقول الدكتور
سامي سلامه أخصائي الأمراض ألباطنه: عندما يصاب أحد أفراد
العائلة بمرض نفسي كالاكتئاب، فأن مرضه يؤثر على حياة ونفسية
كل فرد من أفراد العائلة، فمن المؤلم رؤية إنسان عزيز على النفس
وقريب من القلب يتألم، وخاصة إذا كان هذا العزيز والحبيب والقريب
هو شريكة الحياة والزوجة الحبيبة ورفيقة العمر المخلصة، بالتأكيد
هذا الأمر صعب وشاق على النفس، خاصة إذا كانت ما تعانيه هو
مرض نفسي كالاكتئاب، فعندما يرى الزوج زوجته التي كانت
بالأمس نشيطه ومرحة ورشيقة ومرتبه وجميله ومقبله على الحياة،
وقد تغير فيها كل شيء للنقيض أو لصورة لم يألفها عليها من قبل،
من فقدان الحافز على الاستمرارية والإقبال على الحياة وفقدان
الاهتمام بالنفس و ألذات، و فقد القدرة على التواصل مع الآخرين،
فإن الزوج بالتأكيد يجد نفسه وقد أصبح في وضع لا يحسد عليه،
خاصة إذا كان محدود الثقافة أو لا يعلم الكثير عن الأمراض النفسية
بصفة عامه وعن مرض زوجته وما تعانيه بصفة خاصة. لذلك يجب
تقديم المشورة الطبية والنصح لكل فرد من أفراد الأسرة والمحيطين
بالمريضة لإجراء بعض التعديلات والتغيرات على طريقة معيشتهم
وحياتهم اليومية تماشيا مع ما أستجد على حياتهم من مرض الزوجة،
فمن المهم جدا أن يعرف كل فرد من أفراد العائلة بأن مريضة
الاكتئاب تحتاج إلى من يساعدها في القيام بالأعمال اليومية والحياتية
ويمد لها يد العون، لأن مرض الاكتئاب يؤثر على مزاج المريضة
وكذلك يؤثر في قدرتها على القيام بواجباتها على خير وجه، ويجب
أن يعلم أفراد الأسرة بصفة عامة والزوج بصفة خاصة، أن عليهم
دور كبير في سرعة استجابة المريضة بالاكتئاب للشفاء،
وأنهم يمثلون عامل أساسي في العلاج من خلال اكتشافهم المبكر
للأعراض المرضية علي المريضة وكذلك ملاحظة تطورات المرض
سواء بالتحسن أو بالسوء، ويجب أن يفهم المحيطين بالمريضة
وخاصة الزوج كما إن لدعمهم ووقوفهم بجانب الزوجة دور هام
وتأثير إيجابي خلال مراحل العلاج وسرعة الاستجابة للعلاج
والتحسن، فإنه أيضا ربما يكون لأفراد الأسرة والزوج دور
سلبي في استجابة الزوجة المريضة للشفاء، وذلك من خلال دفعها
للشعور بالذنب وفقدها الإحساس بقيمتها وأهميتها واعتزازها بذاتها
وعزتها أكثر فأكثر.
وتعود د. شارلوت لتضيف:
- يجب زيادة الوعي بهذا المرض عند الزوج والزوجة، والاعتراف
دون خجل أو تردد بأي شعور تشعر به المرأة يدل على عدم الرضا
وعدم الفرح بالأمومة، مثل عدم القدرة على النوم أو الاستيقاظ المبكر
على غير عادة في الصباح الباكر، وفقدان الشهية في معظم الأحيان
أو الشراهة في بعض الحالات القليلة، والتي تنتهي غالبا بالشعور
بتأنيب الضمير وعدم الارتياح خشية الإصابة بالسمنة، وفى هذه
الحالة يجب طلب الاستشارة الطبية حينما تشعر الزوجة ببعض تلك
الأعراض السابقة، ويجب وضع الزوج في الصورة، وذلك كي يتفهم
حالة زوجته الصحية وضرورة الوقوف بجانبها ومسانداتها
ومساعداتها لتخطى هذه المرحلة، ولا شك إن التشخيص الصحيح
وتقديم التوجيهات ألازمة للزوج بشأن ما ينبغي عليه عمله
سوف يزيل التوتر عنه.
علاج هذا المرض
عن علاج مرض الاكتئاب تقول الدكتورة شارلوت:
- إن إتاحة الفرصة للتعبير عما يدور في خلد الزوجة والتحدث عن
مشاعرها وآلامها لمستمع متعاطف معها مثل صديق أو قريب أو
متطوع أو متخصص يمكن أن يساهم كثيرا في إزالة التوتر عنها،
وتجدر الإشارة إلى أن هناك أنواع كثيرة من العلاج
النفسي المتخصص، مثل العلاج النفسي وهو يعتمد على فهم الاكتئاب
على أساس ما حدث للمريضة في الماضي وفى ضوء ما يحدث لها
حاليا، والعلاج الإدراكي الحسي مثل مساعدة المريضة على الإحساس
بإيجابية أكثر اتجاه نفسها.
وعن مدى تأثير العلاج الدوائي على صحة الجنين أو الرضاعة
تضيف الدكتورة شار لوت: - طبيعة الاكتئاب تحتم على الطبيب
أحيانا وصف أنواع مضادات للاكتئاب التي تساعد كثيرا، ويجب أن
تعلم المرأة إن هذه المضادات ليست مهدئات ولا تسبب الإدمان
وقد يستغرق تناولها أسبوعين أو أكثر لتظهر فاعليتها، واستخدام
بعض المضادات الاكتئاب لا يؤثر على الحليب فلا داعي لإيقاف
الرضاعة الطبيعة للطفل.