وكل شيء أحصيناه كتابًا
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
استطاع الإنسان في الوقت الحالي صنع آلة تسجل صورة الشيء وحركته وصوته، سُمِّيت (التلفزيون)، فإذا قدر الإنسان على تسجيل عمل الناس وكلامهم وحفظِهما وعرضهما في أي وقتِ شاء للتسلية أو لتكوين شهادةٍ واقعة على إجرام المجرم، أفليس الله قادرًا - وهو الخالق - على صنع مثل ذلك وتسخيره لتسجيل أفعال عبده وأقواله لعرضها أمامه يوم القيامة لحسابه؟!
لقد أخبرنا الله أنه - تبارك وتعالى - يعلَمُ نيَّاتِنا، وقد أثبت العلم الحديث أن الإنسان إذا فكَّر في شيء نُقِش تفكيرُه هذا في نفسِه، في مكان ما، ورُسِمت حروفه رسمًا لا تندرس معه أبدًا.
ورد في كتاب "الإسلام يتحدى" تأليف وحيد الدين خان، تعريب ظفر الإسلام خان، المعلوماتُ الآتية:
"إن أفكارنا جميعَها تُحفَظ كاملة، ولسنا قادرينَ على محوِها أبدًا، يقول فرويد في محاضرته الحادية والثلاثين... حتى تأملاتنا الخيالية التي دُفِنت في اللاشعور، في مكان من أنفسنا لا نشعر به، تكون أزليَّة أبديَّة في الحقيقة والواقع، تبقى إلى ما لا نهاية، وتبقى محفوظةً لعشرات السنين، وكأنها لم تحدُث إلا أمس".
وقد سلَّم علماءُ النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها: أن كل ما يخطر على بال الإنسان من خير أو شر، وكل ما ينوي به ويفكر فيه، يُنقَش في صفحة اللاشعور، ولا يزول إلى الأبد، ولا يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، ولنتناول هنا مسألةَ القول: إن الآخرة تقول بأن الإنسان مسؤول عن أقواله، فجميع ما يلفظه من كلام - حسنًا كان أم قبيحًا - يحفظ في سجلٍ، قال - تعالى -: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وهذا السِّجل سوف يُعرَض أمام محكمة الآخرة، ليتم حساب الإنسان.
وإمكان وقوع هذا لا ينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعًا أن أحدًا عندما يُحرِّك لسانَه ليتكلَّم يُحرِّك موجات الهواء، وقد ثبت أن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير تبقى في الفضاء إلى الأبد، بعد حدوثها للمرة الأولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى، ولكن علمنا الحديث عاجز حتى الآن عن إعادة هذه الأصوات، أو بعبارة أصح: عاجز عن أن يضبط هذه الموجات مرة أخرى مع أنها لا تزال تتحرَّك في الفضاء من زمن بعيدٍ، ولم يُبْدِ العلماء اهتمامًا خاصًّا بهذا المجال حتى الآن بعد أن سلموا نظريًّا بإمكان صنع آلة لالتقاطِ أصوات الناس الذين عاشوا في الأزمان الماضية، كما يلتقط المذياع الأصوات التي تذيعها محطَّات الإرسال، على أن المسألة الكبرى التي نواجِهُها في هذا الصَّدَد ليست التقاطَ الأصوات القديمة، وإنما التمييز بين الأصوات الكثيرة؛ حتى نتمكن من سماع كل صوت على حِدَةٍ.
وهذه مسألة الإذاعة التي وصلنا فيها إلى حلٍّ، فإن آلاف المحطات الإذاعية في العالم تُذِيع برامج كثيرة ليلَ نهارَ، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء في كل اتجاه بسرعة الضوء التي تقدر بـ(186) ألف ميل في الثانية، وكان من المعقول جدًّا عندما نفتحُ المذياع أن نسمع خليطًا هائلاً من الأصوات لا نفهم منه شيئًا، ولكن هذا لا يحدث؛ لأن محطات الإذاعة جميعها تُرسِل برامجها على موجاتٍ يختلف طولها، فنستطيع أن نسمع أي موجة كانت من المذياع بمجرد أن نُدِير عقربه إلى المكان المطلوب.
إن علماءنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرِّق بين أصوات الزمن القديم، ولو استطاعوا لكنَّا قد سمِعْنا تاريخ كل عصر وزمانه بأصواتِه، وبناءً على هذا يثبُتُ إمكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة، ومن ثَمَّ لا تبقى نظرية الآخرة بعيدةً عن القياس، وهي القائلة بأن كل ما ينطِقُ به الإنسان يُسجَّل وهو محاسَب عليه يوم الحساب.
ولتوضيح ما تقدَّم يُمكِن أن نذكر هنا ما حدث للدكتور مصدق، رئيس إيران، عندما كان مسجونًا في أثناء محاكمته عام 1953م، فقد رُكِّبت في غرفتِه آلةُ تسجيل تتحرَّك من تلقائها، وسجَّلت هذه الآلة كلَّ ما نطق به الدكتور مصدق في غرفته، وقد عُرِضت أشرطة التسجيل أمام المحكمة شهادةً عليه، وهو نموذج لما يمكن أن يحدث في الآخرة.
فنِيَّاتُنا تُسجَّل في أنفسنا، وأقوالنا تُسجَّل في الفضاءِ، كما ثبت ذلك عند العلماء، وكذلك ثبت عندهم أن أعمالَنا يُسجِّلها المحيطُ الذي نعيش فيه، ثم تبقى لا يعتريها تغيُّر أو زوال، فالعلم الحديث يُؤكِّد إيمانَه بأن أعمالنا جميعها، سواء باشرناها في الضوء أم في الظلام، فرادى أم مع الناس، هذه الأعمال كلُّها موجودةٌ في الفضاء في حالة الصورِ، ومن الممكن في أية لحظة كانت تجميعُ هذه الصور حتى نعرِفَ كلَّ ما جاء به إنسانٌ ما من أعمال خير أو شر طوال حياته.
فقد أثبتتِ البحوثُ العلمية أن كل شيء يحدُثُ في الظلام أو في النور، جامدًا كان أم متحرِّكًا، تصدُرُ منه حرارةٌ بصفةٍ دائمة في كل مكان وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تمامًا، وقد تم اختراع آلة دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تصدر عن كل كائن، ثم تعطي هذه الآلةُ صورةً فوتوغرافية كاملة له، ومثاله: أنني أكتب الآن في مكتبتي، وسوف أُغادِرها بعد ساعةٍ، ولكن الموجات الحرارية التي خرجت من جسدي في أثناء وجودي في مكتبتي ستبقى دائمًا، ويمكن الحصول على تسجيل لجلستي في المكتبة في أي وقت كان بوساطة تلك الآلة، غير أن الآلات التي تم اختراعها حتى الآن لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث، أما الموجات القديمة للذين عاشوا قبل آلاف السنين، فلا تستطيع هذه الآلة تصويرَها، وتستعمل في هذه الحالة أشعة قادرة على التصوير في الظلام والضوء على حدٍّ سواء.
ولقد بدأ العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية استغلال هذه الآلة في تحقيقاتهم، فذات ليلة حلَّقت طائرة مجهولة في سماء نيويورك، فصوروا الموجات الحرارية لفضاء نيويورك بهذه الآلة، وأدَّى ذلك إلى معرفة نوع الطائرة.
فلقد أُطِلق على هذه الآلة اسم (آلة التصوير الحرارية)، ونشرت جريدة "هندوستان تايمز" الهندية تعليقًا بمناسبة هذا الاختراع، قالت فيه: "إننا بفضل هذه الآلة سوف نستطيع أن نشاهد تاريخنا على شاشة السينما في المستقبل"، ومن الممكن أن تنتهي هذه العملية إلى كشوف عجيبة تُغيِّر أفكارَنا عن التاريخ من جذورها.
وإني أعدُّ هذا الاختراع عجيبًا كل العجب، فإن تحرُّكاتِنا جميعها تُسجَّل على شاشة الكون؛ حيث لا يَسَعُنا منعها أو الهرب منها، سواء أكُنَّا في الظلام أم في النور، في الليل أم في النهار، فحياتنا كالقصة التي تُصوَّر في (الأستوديو)، ثم نشاهدها على شاشة السينما بعد حقب طويلة من الزمن، وعلى بعد كبير من مكان التسجيل، وهذا شأن كل ما يقترفه الإنسان وشأن الأحداث التي يعيشها، فإن (فيلمًا) تسجيليًّا ناطقًا ومصوَّرًا سوف يُوضَع بين يدي كل فرد يوم القيامة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
والتفاصيل العلمية التي أوردناها في الصفحات الماضية يتَّضِح منها جليًّا أن أجهزة الكون تقوم بتسجيلٍ كامل لأعمال الإنسان كلِّها، فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد، وكل ما ننطق به من كلمات يُسجَّل، فنحن نعيش أمام (كاميرات) تشتغل دائمًا لا تُفرِّق بين الليل والنهار، وأفعالنا القلبية واللسانية والعضوية كلُّها تُسجَّل بدقة تامة، ولا يسَعُنا ونحن نشرحُ هذه الظاهرة العلمية إلا أن نُسلِّم بأن قضية كلٍّ منا سوف تُقدَّم أمام محكمة إلهية، وبأن هذه المحكمة هي التي قامت بإعدادِ هذا النظام العظيم لتحضيرِ الشهادات التي لا يمكن تزويرُها.
فخلاصة المعلومات التي نقلناها من الكتاب المذكور "الإسلام يتحدَّى" تُبيِّن أن البحوث العلمية اليوم وتجاربَها قد أيَّدت ما أخبرنا الله به في كتابه بأنه - سبحانه وتعالى - عليم وخبير وبصير بأقوالنا وأفعالنا وأسرارنا، وأنها مسجَّلة محفوظة في سجلٍ سيعرِضُها الله علينا يوم الحساب؛ قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7].
وقال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾ [الأنبياء: 110].
وقال - تعالى -: ﴿ إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 54]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الملك: 13].
والله معنا أينما كنَّا، قال الله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].
والله يعلم ما تَعْنِيه حركات الأعين، ما تقصده من نظرات خائنة محرمة، قال الله - تعالى -: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19].
وقد أخبر القرآن الكريم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن الله - سبحانه وتعالى - قد سمع الحوار الذي جرى بينه وبين امرأة جاءت تجادله وتشتكي إليه من زوجها، قال الله - تعالى -: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1].
قال ابن كثير في تفسيره:
قال الإمام أحمد... عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمد لله الذي وسِع سمعُه الأصوات، لقد جاءتِ المجادِلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ إلى آخر الآية، وهكذا.. رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا.
والعلم الحديث عندما أكَّد أن الكون يسجِّل أعمال الإنسان وأقواله، فإن القرآن الكريم قبل ذلك قد عبَّر عن هذا المعنى بلفظة (الاستنساخ)، بل يعرضها كما هي أمامهم مستنسخة طبق الأصل، كما يستنسخ المرء اليوم صورتَه أو كتابه أو (جنسيته)، ونحو ذلك، قال الله - تعالى -: ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].
فالله - سبحانه وتعالى - يوم الحساب سيعرِضُ على عبده ما كان يقول ويعمل، كما يعرض ما يسمى (التلفزيون) على الناس صورَهم متحرِّكةً ناطقة، كما كانت في الواقع التي يمكن تَكرار عرضها في أي وقت كان، حتى بعد أن تمرَّ عليها الأعوام وينساها صاحبها.